تأجيل انتخابات السنغال- أزمة ديمقراطية أم مؤامرة سياسية؟

المؤلف: د. بدر حسن شافعي11.16.2025
تأجيل انتخابات السنغال- أزمة ديمقراطية أم مؤامرة سياسية؟

تُصنف السنغال، الواقعة في أقصى غرب القارة الأفريقية، كنموذج فريد للديمقراطية في المنطقة، بل وفي القارة السمراء بأكملها، وذلك لسببين جوهريين: أولاً، لم تشهد البلاد أي انقلابات عسكرية منذ استقلالها عن الجمهورية الفرنسية في بدايات ستينيات القرن الماضي، وثانياً، شهدت عمليات انتقال سلس للسلطة، بل وانتصار المعارضة على رئيسين للبلاد هما الرئيس عبدو ضيوف الذي خسر أمام زعيم المعارضة عبد الله واد في انتخابات عام 2000، وهزيمة الأخير أمام الرئيس الحالي ماكي سال في انتخابات عام 2012. وخلال هذه الحقبة الزمنية، لم يتم تأجيل الانتخابات قط، كما أنها اتسمت بالنزاهة والشفافية إلى حد كبير.

كان من المتوقع أن تتوج هذه المسيرة الديمقراطية الزاهية بالانتخابات الرئاسية التي كان من المزمع إجراؤها في الخامس والعشرين من شهر فبراير/ شباط الجاري، والتي لن يشارك فيها الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال للمرة الأولى، بعد قيامه بتعديل الدستور في عام 2016، ليصبح من حق الرئيس تولي منصبه لولايتين متتاليتين، تمتد كل منهما لخمس سنوات.

وعلى الرغم من أن الرئيس قد أعلن في شهر يوليو/ تموز الماضي، بأنه لن يترشح لولاية ثالثة في سابقة مخالفة لسلفَيه: ضيوف، وواد، إلا أن قراره المفاجئ في الثالث من فبراير/ شباط بتأجيل الانتخابات – استجابةً لطعن كريم واد نجل الرئيس الأسبق عبدالله، ضد قرار استبعاده من الترشيحات التي وافق عليها المجلس الدستوري المخول بالبتّ في ملفات المترشحين، وتشكيكه في استقامة قاضيَين بالمجلس – أثار موجة من الشكوك العميقة حول هذا القرار، لا سيما أن سال لم يحدد فترة زمنية لإجراء الانتخابات، والجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استبعاد كريم، حيث استبعد من الترشح في انتخابات عام 2019 ضد سال، بسبب حمله للجنسية الفرنسية، ولم يتم تأجيل الانتخابات آنذاك!

 

من الجلي أنّ سال قد رَضَخَ مُرْغمًا، وانصاع لضغوط الشارع والقوى المعارضة، في إعلانه عن عدم الترشح لفترة رئاسية ثالثة. وبناءً على ذلك، بات عليه التفكير مليًا في البدائل المتاحة: هل سينسحب من المشهد السياسي بشكل كامل؟، أم سيسعى جاهدًا لإيجاد بديل له من داخل الحزب الحاكم الذي يعاني انقسامات داخلية وتراجعًا سياسيًا ملحوظًا؟

قرار يفتقر إلى السند الدستوري

هذا القرار الذي اتخذه الرئيس سال، يشوبه خلل دستوري وقانوني من زاويتين اثنتين؛ الأولى: مخالفته الصريحة لنصوص الدستور، وخاصة الفقرة (7) من المادة (103)، التي تنص على أن مدة الولاية الرئاسية لا يمكن تعديلها أو تغييرها، والمادة (27)، التي تحدد مدة ولاية كل رئيس بفترتين فقط، تمتد كل واحدة منهما لخمس سنوات.

وبالتالي، لا يحق له بأي حال من الأحوال تمديد ولايته التي من المفترض أن تنتهي في الثاني من شهر أبريل/ نيسان القادم، كما أنه تجاوز صلاحيات المجلس الدستوري الذي يعتبر الجهة الوحيدة المخولة باتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية، على الرغم من أنه قد لجأ إلى المجلس في عام 2016، لأخذ الرأي القانوني بشأن تقليص مدة الرئاسة من سبع سنوات إلى خمس سنوات فقط، إلا أن المجلس رفض ذلك المقترح، واستمر سال في ولايته الأولى حتى عام 2019.

صحيح أنَّ من حق الرئيس طلب إعادة النظر في تعديل الدستور، واستشارة البرلمان في ذلك، ولكن لا بد من طرح الأمر للاستفتاء الشعبي في حال تعديل بعض البنود الدستورية، أو طلب رأي المجلس الدستوري في حال وجود أي اعتراض أو إشكالية تتعلق بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد.

ولعل هذا ما دفع المجلس إلى إصدار قراره التاريخي يوم الخميس الموافق 15 فبراير/ شباط ببطلان قرار كل من الرئيس سال، والبرلمان الذي قام بتأجيل الانتخابات إلى شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، واستمرار حكم الرئيس سال إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية القادمة.

الأسباب الكامنة وراء تأجيل الانتخابات

يتضح جليًا أنّ الرئيس سال قد وافق على مضض، واستجاب لضغوط كل من الشارع السنغالي والقوى المعارضة، في إعلانه عن عدم الترشح لفترة رئاسية ثالثة. ونتيجة لذلك، بات عليه التفكير مليًا في البدائل المتاحة: هل سينسحب من المشهد السياسي بشكل كامل؟، أم سيسعى بدأب لإيجاد شخصية بديلة له من داخل الحزب الحاكم الذي يعاني حالة من الانقسام والتراجع السياسي الملحوظ في الانتخابات البرلمانية لعام 2022، والانتخابات البلدية لعام 2023، حيث فقد الحزب الأغلبية المطلقة في البرلمان للمرة الأولى في تاريخه، وتراجع عدد مقاعده من 125 مقعدًا إلى 82 مقعدًا فقط من إجمالي 165 مقعدًا، بالإضافة إلى خسارته للبلديات الرئيسية في البلاد؟

لقد أعلن الرئيس سال عن تأييده لرئيس الحكومة أمادو باه، كمرشح رئاسي للحزب الحاكم في الانتخابات القادمة، على الرغم من أنه لا يتمتع بالكاريزما والجاذبية اللازمة لإدارة شؤون البلاد، فضلاً عن التدهور الملحوظ في المؤشرات الاقتصادية منذ توليه رئاسة الحكومة في عام 2022.

فوفقًا للبيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي، انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للسنغال من 5.5٪ إلى 4.2٪ في عام 2022، كما ارتفع متوسط معدل التضخم بشكل كبير ليصل إلى 9.6٪ في عام 2022، مقارنة بـ 2.2٪ في عام 2021.

ومع ذلك، قد يكون اختياره لأمادو باه متعمدًا، بهدف تمكين الرئيس سال من التحكم في مجريات الأمور من وراء الكواليس، لكي نكون أمام تكرار لتجربة بوتين – ميدفيديف الروسية الشهيرة، ولكن بنكهة سنغالية.

لكن من الواضح أن عملية تحسين الصورة الذهنية لأمادو باه تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد في بلد يعشق الديمقراطية ويترفع عن فكرة الالتفاف عليها، خاصة وأن إحدى الإشكاليات التي تواجه الرئيس سال وأمادو باه هي العلاقة الوطيدة التي تربطهما بفرنسا، والتي تعاني من عزوف ورفض شعبي متزايد لها في منطقة غرب أفريقيا بشكل عام، وفي جمهورية السنغال بشكل خاص.

بل إن فكرة إدارة الظهر لفرنسا، كانت إحدى الأوراق الرابحة التي اعتمد عليها عثمان سونكو المرشح الرئاسي "المحبوس حاليًا" ورئيس حزب باستيف "المنحل" في انتخابات عام 2019، كما أنها إحدى الأوراق القوية أيضًا بيد مساعده باسيرو ديوماي فاي "المرشح الرئاسي الحالي" والمحبوس أيضًا.

لا تتوقف هذه التحديات التي تواجه أمادو باه عند عثمان سونكو والتيار الرافض لفرنسا، بل تتجسد أيضًا في وجود منافسين أقوياء آخرين؛ من بينهم خليفة سال عمدة العاصمة داكار السابق، والذي تم استبعاده من انتخابات عام 2019 بعد حبسه في قضايا فساد "ذات طابع سياسي" لعدم منافسة الرئيس سال الذي أصدر عفوًا رئاسيًا عنه بعد انتهاء الانتخابات بفترة وجيزة.

وبالتالي، يقدم خليفة سال نفسه على أنه أحد ضحايا التهميش والإقصاء في عهد الرئيس سال، كما يحظى بدعم قوي من الحزب الاشتراكي العريق الذي حكم البلاد طيلة أربعين عامًا من خلال الرئيسين: ليوبولد سنغور، وعبدو ضيوف.

مَن الطرف المستفيد من تأجيل الانتخابات؟

إذا كان الرئيس سال قد يستفيد من تأجيل الانتخابات، لتهيئة الظروف وتمهيد الطريق أمام أمادو باه، فإن هناك طرفًا آخر قد يستفيد من هذا التأجيل " سواء بقصد منه أم بغير قصد " ألا وهو كريم واد الذي تنازل عن جنسيته الفرنسية في أوائل هذا العام، وهو أيضًا صاحب الطعن الشهير في قاضيَي المجلس الدستوري، والداعم القوي لقرار الرئيس في البرلمان الذي وافق على قرار تأجيل الانتخابات، على أن تجرى في شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل.

وربما هنا تتجلى المفارقة العجيبة من هذا التقارب المفاجئ بين الرئيس سال وكريم واد، على الرغم من قيام الرئيس سال باستبعاد كريم واد قبل الانتخابات البرلمانية في عام 2016، وكذلك الانتخابات الرئاسية في عام 2019. وهل يمكن أن يكون لفرنسا دورٌ خفيٌ في هذا التقارب المريب بعد تراجع نفوذها وتأثيرها في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وبالتالي لا تريد أن تخسر دكار العاصمة الأساسية لهيمنتها ونفوذها في المنطقة، والتي تحتضن المقر الرئيسي للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا؟، وهل يمكن أن يكون كريم واد هو الرئيس القادم للبلاد بمباركة خفية من كل من الرئيس سال وفرنسا؟

قد يكون هذا الأمر واردًا ومحتملًا لولا القرار الصادر عن المجلس الدستوري الذي يؤكد بشكل قاطع استبعاد كريم واد من الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة.

هل سيكون الرئيس سال هو الرئيس القادم أم ستتدخل المؤسسة العسكرية؟

ولكن بافتراض عدم وجود مثل هذا التفاهم أو الاتفاق الخفي بين الرئيس سال وكريم واد، فإن هناك الاحتمال الأخطر والأكثر إثارة للقلق، ألا وهو أن يكون الرئيس سال نفسه هو الرئيس القادم بالقوة القاهرة، مستغلاً حالة الفوضى والاضطرابات التي تعصف بالبلاد منذ عام 2021، وحتى صيف العام الماضي، والتي راح ضحيتها حوالي ستين شخصًا؛ بسبب المظاهرات العارمة التي يقودها أنصار عثمان سونكو بعد تلفيق التهم الكيدية له وإيداعه السجن.

ولعله قد ألمح إلى هذا الاحتمال الخطير في مقابلة صحفية مع مجلة "جون أفريك الفرنسية الشهيرة" في شهر يونيو/ حزيران الماضي، بقوله: "فقط التهديد الخطير بزعزعة استقرار البلاد، وخاصة بسبب صعود التطرف الديني، يمكن أن يجعلني أغير رأيي [حول الولاية الثالثة]".

صحيح أن الرجل قد أعلن بعد ذلك بوقت قصير، عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة، إلا أن هذا القرار يبقى معلقًا بتحقيق حالة من الاستقرار من وجهة نظره الخاصة. وإن كان القرار الصادر عن المجلس الدستوري يضعه في موقف حرج للغاية، خاصة أنه يصب في صالح مرشحي المعارضة ومنظمات المجتمع المدني القوية والفعالة في البلاد.

وهنا يثور التساؤل الحائر عن موقف المؤسسة العسكرية، وهل يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا "الانقلاب الدستوري المحتمل" من قبل الرئيس؟، أم أنها قد تتدخل بشكل حاسم لإجباره على الالتزام بأحكام الدستور وتنفيذ قرار المجلس الدستوري وإجراء الانتخابات في موعدها المحدد أو تأجيلها لفترة وجيزة فقط لإعطاء الفرصة للمرشحين للقيام بحملاتهم الانتخابية، لا سيما في ظل الثقة الكبيرة التي تحظى بها المؤسسة العسكرية لدى الشعب السنغالي "85%" من السنغاليين يعبرون عن ثقتهم بالجيش، وهي من بين أعلى المعدلات في القارة"؟، أم وهذا هو السيناريو الأخطر على الإطلاق، قد تتولى المؤسسة العسكرية زمام الأمور في البلاد لفترة تطول أو تقصر، لحين استتباب الأوضاع وعودة الهدوء والاستقرار، وإجراء الانتخابات الرئاسية؟

إنّ تاريخ المؤسسة العسكرية في السنغال يشير بوضوح إلى أنها تلتزم الحياد التام وعدم التدخل في الشؤون السياسية، وأن دورها الأساسي يقتصر على مواجهة أي عدوان خارجي محتمل، وتحقيق الانضباط الداخلي "الردع" دون القيام بعملية القمع لصالح النظام الحاكم، ولا أدل على ذلك من رفض الجنرال تافاريز دا سوزا في عام 1988 الاستجابة لطلب الرئيس عبدو ضيوف بقمع المظاهرات التي خرجت ضده، وقد اتُهم الجنرال حينها بمحاولة تنظيم انقلاب ضد النظام وأُحيل إلى التقاعد المبكر.

وفي الأحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد بين شهر مارس/ آذار 2021 وشهر يونيو/ حزيران 2023، وفي أوج المظاهرات المرتبطة باعتقال عثمان سونكو وإدانته لاحقًا، انتشر الجيش في شوارع البلاد؛ فقط لفرض حالة الردع ومنع تفاقم الأوضاع.

لكن ومع ذلك، قد تثير الانقلابات العسكرية المتتالية التي شهدتها العديد من دول غرب أفريقيا: "مالي، بوركينا فاسو والنيجر، بما فيها دول الجوار: "موريتانيا، غامبيا، غينيا بيساو، مالي، غينيا" – حفيظة الجيش السنغالي للتدخل بحجة الحفاظ على الأمن والاستقرار، ولتخرج البلاد من محيط دائرة الانقلابات "العسكرية"، لتصبح في قلبها!

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة